الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد فمن خلال تتبعي بعمق للطروحات العقائدية في قضية الإمامة من قبل أساطين المذهب وأعمدته ، وجدت اضطراب أصولهم وتقريراتهم.
فما إن يجيبوا على اعتراض ويردوا على إشكال إلا وينقضوا أصلاً ويخالفوا ثابتاً من ثوابتهم فحالهم كحال من أراد يبني قصراً فهدم مِصْراً ، وهذا ما وقفت عليه في مواضع عدة إذ يأتون بجوابٍ ينقض أصلاً ويهدم ثابتاً.
ولكي يقف القارئ على مسلكهم ذاك فليتدبر بإنصاف في هذا الموضوع ، والذين كانوا فيه بصدد الجواب عن العلة التي لأجلها غاب إمامهم الثاني عشر وترك شيعته هملاً يجولون جولان النعم في غيبته يطلبون المرعى فلا يجدونه.
ومن يتأمل في جوابهم سيجزم بتضمنه للطعن في الحسين رضي الله عنه ويصف خروجه بالجرم العظيم والفعل القبيح.
وإليكم إخواني وزملائي بيان ذلك مفصلاً في عدة حقائق وكما يلي:
الحقيقة الأولى: جميع الأئمة قد وقعت في أعناقهم بيعة لطواغيت أزمانهم ما عدا الغائب
وإليكم إثبات هذه الحقيقة من كتبهم وكما يلي:
1- روى صدوقهم في كتابه ( كمال الدين وتمام النعمة ) ص 316:[ عن حنان بن سدير ، عن أبيه سدير بن حكيم ، عن أبيه ، عن أبي سعيد عقيصا قال : لما صالح الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته فقال الحسن عليه السلام : ويحكم ما تدرون ما عملت ، والله الذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت ، ألا تعلمون أني إمامكم ومفترض الطاعة عليكم ، وأحد سيدي شباب أهل الجنة ، بنص من رسول الله صلى الله عليه واله علي ؟ قالوا : بلى ، قال : أما علمتم أن الخضر لما خرق السفينة وأقام الجدار ، وقتل الغلام ، كان ذلك سخطا لموسى بن عمران عليه السلام إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك ، وكان ذلك عند الله تعالى ذكره حكمة وصوابا أما علمتم أنه ما منا أحد إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم الذي يصلي خلفه روح الله عيسى بن مريم عليه السلام ؟ فإن الله عزوجل يخفي ولادته ، ويغيب شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج ، ذاك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الاماء يطيل الله عمره في غيبته ، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب ابن دون الأربعين سنة ذلك ليعلم أن الله على كل شئ قدير ].
فالحسن رضي الله عنه يثبت هنا وقوع البيعة من جميع الأئمة لطواغيت أزمانهم ولم يستثنِ منهم إلا الإمام الثاني عشر الغائب.
2- روى صدوقهم أيضاً في كتابه ( كمال الدين وتمام النعمة ) ص 483-485 التوقيع الصادر إن إمامهم المهدي الغائب وهو طويل وإليكم الشاهد منه على موضوعنا:[ حدثنا محمد بن محمد بن عصام الكليني رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن يعقوب الكليني ، عن إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السلام : أما سألت عنه أرشدك الله وثبتك ... وأما علة ما وقع من الغيبة فإن الله عز وجل يقول : " يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " إنه لم يكن لأحد من آبائي عليهم السلام إلا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه ، وإني أخرج حين أخرج ، ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي ...].
وقول إمامهم المهدي الغائب كسابقه يثبت وقوع البيعة من جميع الأئمة للطواغيت في أزمانهم ولم يستثنَ منها إلا الغائب الثاني عشر.
3- اعترف علامتهم محمد صالح المازندراني بحتمية وقوع البيعة من الأئمة مع ظهورهم ، وأنه لا خلاص من وقوعها في أعناقهم إلا بالغيبة والاستتار وهو ما فعله إمامهم الغائب ، إذ لو بقي ظاهراً بين الناس إلى زمان قيام دولته فستلزمه البيعة لحاكم زمانه حتماً ، فقال في كتابه ( شرح أصول الكافي ) ( 6 / 270 ):[ وكأن فيه إشارة إلى سبب من أسباب غيبته ومصلحة من مصالحها لأنه ( عليه السلام ) لو كان ظاهرا إلى أوان ظهور دولته لكان في عنقه لا محالة عهد أو عقد أو بيعة لسلاطين الجور ].
وحاصل كلامه أن كل من كان ظاهراً من الأئمة بين الناس ستلزمه البيعة لا محالة ، وبما أن جميع آبائه - الأئمة السابقين - كانوا ظاهرين بين الناس فلا شك أن البيعة قد لزمتهم لطواغيت زمانهم.
فهذه ثلاثة أدلة تثبت وقوع البيعة من جميع الأئمة لطواغيت زمانهم باستثناء إمامهم الثاني عشر الذي اختار الغيبة ليتخلص من وقوعها في عنقه.
الحقيقة الثانية: سبب غيبة الإمام الثاني عشر هو لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة
وهذه أيضاً أثبتوها في مصادرهم وكما يلي:
1- يروي صدوقهم في كتابه ( علل الشرائع ) ( 1 / 245 ):[ حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق رضي الله عنه قال : حدثنا أحمد بن محمد الهمداني قال : حدثنا علي بن الحسن بن علي بن فضال ، عن أبيه ، عن أبى الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام أنه قال : كأني بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدي كالنعم يطلبون المرعى فلا يجدونه ، قلت له : ولم ذاك يا ابن رسول الله ؟ قال : لأن إمامهم يغيب عنهم ، فقلت : ولم ؟ قال : لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا قام بالسيف ] ، وأوردها أيضاً في كتابه ( كمال الدين وتمام النعمة ) ص 480.
2- يروي صدوقهم في كتابه ( كمال الدين وتمام النعمة ) ص 140:[ حدثنا عبد الواحد بن محمد العطار رضي الله عنه قال : حدثنا أبو عمرو الكشي ، عن محمد بن مسعود قال : حدثنا جبرئيل بن أحمد قال : حدثنا محمد بن عيسى ، عن محمد بن أبي عمير ، عن سعيد بن غزوان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : صاحب هذا الامر تغيب ولادته عن هذا الخلق كيلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج ويصلح الله عزوجل أمره في ليلة ( واحدة )].
3- يروي صدوقهم في نفس المصدر السابق ص 316:[ عن حنان بن سدير ، عن أبيه سدير بن حكيم ، عن أبيه ، عن أبي سعيد عقيصا قال : لما صالح الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته فقال الحسن عليه السلام : ... إلا القائم الذي يصلي خلفه روح الله عيسى بن مريم عليه السلام ؟ فإن الله عزوجل يخفي ولادته ، ويغيب شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج ، ذاك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الاماء يطيل الله عمره في غيبته ، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب ابن دون الأربعين سنة ذلك ليعلم أن الله على كل شئ قدير].
4- ذكر صدوقهم أيضاً في المصدر السابق ص 44:[ وقد روى أن صاحب هذا الامر هو الذي تخفى ولادته على الناس ويغيب عنهم شخصه لئلا يكون لاحد في عنقه بيعة إذا خرج ].
5- يقول شيخهم باقر شريف القرشي في كتابه ( حياة الإمام المهدي ) ص 166-167:[ عدم بيعته لظالم : ومن الأسباب التي ذكرت لاختفاء الإمام عليه السلام أن لا تكون في عنقه بيعة لظالم وقد أثر ذلك عن الإمام الرضا عليه السلام فقد روي الحسن بن علي بن فضال عن أبيه أن الإمام الرضا قال : " كأني بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدي كالنعم يطلبون المرعى فلا يجدونه فقال له : " ولم ذاك يا بن رسول الله ؟ . . . " . قال عليه السلام لأن إمامهم يغيب عنهم . . " ولم ؟ . . . " . لئلا يكون في عنقه لأحد بيعة إذا قام بالسيف ". وأعلن الإمام المنتظر عليه السلام ذلك بقوله : إنه لم يكن لأحد من آبائي عليهم السلام إلا وأوقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه وإني أخرج حين أخرج ، ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي ].
الحقيقة الثالثة: خروج الإمام بالسيف وفي عنقه بيعة للطواغيت جُرْمٌٌ عظيم وفعلٌ قبيح
وهذه الحقيقة تعتبر بمنتهى الخطورة وهي عدم جواز خروج الإمام بالسيف على الحاكم الظالم ما دامت في عنقه بيعة له ، ولم تقف القضية عند عدم الجواز بل صار الإقدام عليها جُرْماً عظيماً وفعلاً قبيحاً ، والذي يثبت هذه الحقيقة أمران هما:
وبيان ذلك من أمرين هما:
الأمر الأول: فعل إمامهم الثاني عشر
لا شك أن ما أقدم عليه إمامهم الثاني عشر - من اختياره للغيبة وتخليه عن مهام الإمامة المناطة في عنقه والتي من أبرزها هداية شيعته للحق وعدم تركهم هملاً يجولون جولان النعم في غيبته يطلبون المرعى فلا يجدونه - لهو جرمٌ عظيم بحق شيعته وجناية عظمى تسبب في ضلال الكثير منهم لدرجة الشك أو إنكار الإمامة والخروج عن مذهب الإمامية كما اعترف علماء الشيعة بذلك ومنهم:
1- يقول صدوقهم في كتابه ( كمال الدين وتمام النعمة ) ص 16:[ ولقد كلمني رجل بمدينة السلام فقال لي : أن الغيبة قد طالت والحيرة قد اشتدت وقد رجع كثير عن القول بالإمامة لطول الأمد ] ، ويقول أيضاً ص 2:[ فوجدت أكثر المختلفين إلي من الشيعة قد حيرتهم الغيبة ، ودخلت عليهم في أمر القائم عليه السلام الشبهة ، وعدلوا عن طريق التسليم إلى الآراء والمقائيس].
2- يقول شيخهم علي أكبر الغفاري في تقديمه لكتاب صدوقهم السابق ص 10:[ وعمدة الكلام في تلك المجالس إثبات مذهب الإمامية ولا سيما مسألة الغيبة . وذلك لأن الشيعة - الفرقة الاثنى عشرية - بعد ما فقدت راعيها تفرقت وارتابت ووقعت في الحيرة لخفاء الأمر عليها ... فتشابكت هذه العوامل وتتابعت وتضافرت حتى آل الامر إلى تزلزل العقائد وتحير الناس في أمر الإمام الغائب عليه السلام وأفضى إلى ارتداد الفئة الناشئة وصرفهم عما كانوا عليه هم وآباؤهم . وأحسَّ المؤلف - رحمه الله - هذا الخطر الداهم فنهض جاهدا لحفظ الشيعة عن هذا الشر المستطير والانهيار المحقق والانهدام المتحتم ].
وبالرغم من عِظَم الخطر المترتب على غيبة الإمام والمتمثلة بضلال الكثير من الشيعة وانحرافهم عن الحق ، إلا أن المعصوم أقدم عليه لاعتقاده أن هذه المفسدة العظيمة تعتبر أخف في نظره من مفسدة التزامه ببيعة ثم نقضها بالخروج بالسيف ، ولذا دفع المفسدة الأعظم في نظره وهي الخروج بالسيف مع وجود البيعة ، مرتكباً المفسدة الأخف جُرْماً وهي ضلال الشيعة ورجوع الكثير منهم عن القول بالإمامة.
وكأن لسان حاله يقول:
إن تركي للشيعة في ضلال وتيه حتى ترك الكثير منهم عقيدته في الإمامة ، أهون فساداً وأخف جُرْماً من خروجي بالسيف مع وجود بيعة في عنقي للطواغيت !!!
الأمر الثاني: تصريح علامتهم محمد صالح المازندراني شارح كتاب الكافي
حيث صرح بأن الخروج بالسيف مع وقوع البيعة منه يعتبر نقضاً للعهد وهو فعل قبيح لا يليق صدوره من جناب الإمام المعصوم ، فقال في كتابه ( شرح أصول الكافي ) ( 6 / 270 ):[ لأنه ( عليه السلام ) لو كان ظاهرا إلى أوان ظهور دولته لكان في عنقه لا محالة عهد أو عقد أو بيعة لسلاطين الجور فكان عند خروجه بالسيف ناقضا لذلك العهد ونقض العهد قبيح لا يليق بجنابه ].
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
والآن تعالوا إخواني لنطبق مضمون الحقائق الثلاث التي نطق بها الإمامية على الإمام الحسين رضي الله عنه وأرضاه سيد شباب أهل الجنة سنجد ما يلي:
1- قد كانت في عنقه بيعة لحاكم زمانه في ضوء الحقيقة الأولى التي أثبتت بيعة جميع الأئمة للحكام في أزمانهم ولم تستثنِ منهم إلا الثاني عشر الغائب.
2- أنه خرج بالسيف على حاكم زمانه مع أن له في عنقه بيعة.
أي أن الإمام الحسين رضي الله عنه كان أمامه خيارين هما:
الخيار الأول:
أن يتخلى عن مهام الإمامة المُناطة به فيترك بيان الحق ويختار السكوت بما يؤدي إلى طمس الحق وضلال الشيعة وانحرافهم عن معتقدهم في الإمامة ، لكي يتجنب الوقوع في الجُرْم الأعظم وهو الخروج بالسيف وفي عنقه بيعة.
الخيار الثاني:
أن يقوم بمهام الإمامة وبيان الحق ولا يسكت عن الانحراف من قبل حاكم زمانه بل يخرج عليه بالسيف لتغيير المنكر وإرجاع الناس إلى الحق ، وعندها سيرتكب الجُرْم الأعظم وهو الخروج بالسيف وفي عنقه بيعة.
ومن خلال السيرة والتاريخ نجد أن الإمام الحسين رضي الله عنه وأرضاه قد اختار - وفق الحقائق الثلاث التي نطقوا بها - الجُرْم الأعظم وهو الخروج بالسيف وفي عنقه بيعة على العكس تماماً من إمامهم الثاني عشر الذي اختار الأمر الأقل جُرْماً وهو الغيبة وضلال الشيعة عن الحق كيلا يقع فيما وقع فيه الإمام الحسين رضي الله عنه وأرضاه.
فتأملوا معي كيف قرروا - في معرض ردهم على شبهة غياب المعصوم وتبرير غيابه - أن الإمام الحسين رضي الله عنه قد ارتكب بخروجه جرماً عظيماً وفعلاً قبيحاً شنيعاً ؟!!!