(بيان)
معنى الآية في نفسها ظاهر فإنها تتضمن أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ في صورة التهديد، ووعده صلى الله عليه وآله وسلم بالعصمة من الناس، غير أن التدبر في الآية من حيث وقوعها موقعها الذي وقعت فيه، وقد حففتها الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب وذمهم وتوبيخهم بما كانوا يتعاورونه من أقسام التعدي إلى محارم الله والكفر بآياته. وقد اتصلت بها من جانبيها الآيتان، أعني قوله: { ولو أنهم أقاموا التوراة والإِنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } (الآية)، وقوله تعالى: { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإِنجيل وما أنزل إليكم من ربكم } (الآية).
ثم الإِمعان في التدبر في نفس الآية وارتباط الجمل المنضودة فيها يزيد الإِنسان عجباً على عجب.
فلو كانت الآية متصلة بما قبلها وما بعدها في سياق واحد في أمر أهل الكتاب لكان محصلها أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد الأمر بتبليغ ما أنزله الله سبحانه في أمر أهل الكتاب، وتعين بحسب السياق أن المراد بما أنزل إليه من ربه هو ما يأمره بتبليغه في قوله: { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإِنجيل وما أنزل إليكم من ربكم } (الآية).
وسياق الآية يأباه فإن قوله: { والله يعصمك من الناس } يدل على أن هذا الحكم المنزل المأمور بتبليغه أمر مهم فيه مخافة الخطر على نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو على دين الله تعالى من حيث نجاح تبليغه، ولم يكن من شأن اليهود ولا النصارى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوجه إليه من ناحيتهم خطر يسوّغ له صلى الله عليه وآله وسلم أن يمسك عن التبليغ أو يؤخره إلى حين فيبلغ الأمر إلى حيث يحتاج إلى أن يعده الله بالعصمة منهم إن بلَّغ ما أمر به فيهم حتى في أوائل هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وعنده حدة اليهود وشدتهم حتى انتهى إلى وقائع خيبر وغيرها.
على أن الآية لا تتضمن أمراً شديداً ولا قولاً حاداً، وقد تقدم عليه تبليغ ما هو أشدّ وأحدّ وأمرّ من ذلك على اليهود، وقد أُمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ ما هو أشد من ذلك كتبليغ التوحيد ونفي الوثنية إلى كفار قريش ومشركي العرب وهم أغلظ جانباً وأشد بطشاً وأسفك للدماء، وأفتك من اليهود وسائر أهل الكتاب، ولم يهدده الله في أمر تبليغهم ولا آمنه بالعصمة منهم.
على أن الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب معظم أجزاء سورة المائدة فهي نازلة فيها قطعاً، واليهود كانت عند نزول هذه السورة قد كسرت سورتهم، وخمدت نيرانهم، وشملتهم السخطة واللعنة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله فلا معنى لخوف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم في دين الله، وقد دخلوا يومئذٍ في السلم في حظيرة الإِسلام وقبلوا هم والنصارى الجزية، ولا معنى لتقريره تعالى له خوفه منهم واضطرابه في تبليغ أمر الله إليهم، وهو أمر قد بلَّغ إليهم ما هو أعظم منه، وقد وقف قبل هذا الموقف فيما هو أهول منه وأوحش.
فلا ينبغي الارتياب في أن الآية لا تشارك الآيات السابقة عليها واللاحقة لها في سياقها، ولا تتصل بها في سردها، وإنما هي آية مفردة نزلت وحدها.
والآية تكشف عن أمر قد أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إما مجموع الدين أو بعض أجزائه) وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاف الناس من تبليغه ويؤخره إلى حين يناسبه، ولولا مخافته وإمساكه لم يحتج إلى تهديده بقوله: { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } كما وقع في آيات أول البعثة الخالية عن التهديد كقوله تعالى: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى آخر سورة العلق، وقوله:
{ يا أيُّها المدثر * قم فأنذر }
[المدثر: 1ـ2]، وقوله:
{ فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين }
[فصلت: 6] إلى غير ذلك.
فهو صلى الله عليه وآله وسلم كان يخافهم ولم يكن مخافته من نفسه في جنب الله سبحانه فهو أجل من أن يستنكف عن تفدية نفسه أو يبخل في شيء من أمر الله بمهجته فهذا شيء تكذبه سيرته الشريفة ومظاهر حياته، على أن الله شهد في رسله على خلاف ذلك كما قال تعالى:
{ ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً * الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاَّ الله وكفى بالله حسيباً }
[الأحزاب: 38ـ39]، وقد قال تعالى في أمثال هذه الفروض:
{ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين }
[آل عمران: 175]، وقد مدح الله سبحانه طائفة من عباده بأنهم لم يخشوا الناس في عين أن الناس خوفوهم فقال:
{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل }
[آل عمران: 173]. وليس من الجائز أن يقال: إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يخاف على نفسه أن يقتلوه فيبطل بذلك أثر الدعوة وينقطع دابرها فكان يعوقه إلى حين ليس فيه هذه المفسدة فإن الله سبحانه يقول له صلى الله عليه وآله وسلم:
{ ليس لك من الأمر شيء }
[آل عمران: 128]، لم يكن الله سبحانه يعجزه لو قتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحيي دعوته بأي وسيلة من الوسائل شاء، وبأي سبب أراد.
نعم من الممكن أن يقدر لمعنى قوله: { والله يعصمك من الناس } أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاف الناس في أمر تبليغه أن يتهموه بما يفسد به الدعوة فساداً لا تنجح معه أبداً فقد كان أمثال هذا الرأي والاجتهاد جائزاً له مأذوناً فيه من دون أن يرجع معنى الخوف إلى نفسه بشيء.
ومن هنا يظهر أن الآية لم تنزل في بدء البعثة كما يراه بعض المفسرين إذ لا معنى حينئذٍ لقوله تعالى: { والله يعصمك من الناس } إلاَّ أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يماطل في إنجاز التبليغ خوفاً من الناس على نفسه أن يقتلوه فيحرم الحياة أو أن يقتلوه ويذهب التبليغ باطلاً لا أثر له فإن ذلك كله لا سبيل إلى احتماله.
على أن المراد بما أُنزل إليه من ربه لو كان أصل الدين أو مجموعه في الآية عاد معنى قوله: { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } إلى نحو قولنا: يا أيُّها الرسول بلغ الدين وإن لم تبلغ الدين فما بلغت الدين.
وأما جعله من قبيل قول أبي النجم:
أنا أبو النجم وشعري شعري
كما ذكره بعضهم أن معنى الآية: وإن لم تبلّغ الرسالة فقد لزمك شناعة القصور في التبليغ والإِهمال في المسارعة إلى ائتمار ما أمرك به الله سبحانه، وأكّده عليك كما أن معنى قول أبي النجم: إني أنا أبو النجم وشعري شعري المعروف بالبلاغة المشهور بالبراعة.
فإن ذلك فاسد لأن هذه الصناعة الكلامية إنما تصح في موارد العام والخاص والمطلق والمقيد ونظائر ذلك فيفاد بهذا السياق اتحادهما كقول أبي النجم: شعري شعري أي لا ينبغي أن يتوهم عليَّ متوهم أن قريحتي كلَّت أو أن الحوادث أعيتني أن أقول من الشعر ما كنت أقوله فشعري الذي أقوله اليوم هو شعري الذي كنت أقوله بالأمس.
وأما قوله تعالى: { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } فليس يجري فيه مثل هذه العناية فإن الرسالة التي هي مجموع الدين أو أصله على تقدير نزول الآية في أول البعثة أمر واحد غير مختلف ولا متغير حتى يصح أن يقال: إن لم تبلغ هذه الرسالة فما بلغت تلك الرسالة أو لم تبلغ أصل الرسالة فإن المفروض أنه أصل الرسالة التي هي مجموع المعارف الدينية.
فقد تبيّن أن الآية بسياقها لا تصلح أن تكون نازلة في بدء البعثة ويكون المراد فيها بما أُنزل إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مجموع الدين أو أصله، ويتبين بذلك أنها لا تصلح أن تكون نازلة في خصوص تبليغ مجموع الدين أو أصله في أي وقت آخر غير بدء البعثة فإن الإِشكال إنما ينشأ من جهة لزوم اللغو في قوله تعالى: { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } كما مرَّ.
على أن قوله: { يا أيُّها الرسول بلغ ما أُنزل اليك من ربك } لا يلائم النزول في أي وقت آخر غير بدء البعثة على تقدير إرادة الرسالة بمجموع الدين أو أصله، وهو ظاهر.
على أن محذور دلالة قوله: { والله يعصمك من الناس } على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخاف الناس في تبليغه على حاله.
فظهر أن ليس هذا الأمر الذي أُنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأكدت الآية تبليغه هو مجموع الدين أو أصله على جميع تقاديره المفروضة، فلنضع أنه بعض الدين، والمعنى: بلغ الحكم الذي أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " الخ " ولازم هذا التقدير أن يكون المراد بالرسالة مجموع ما حمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدين ورسالته، وإلاَّ فالمحذور السابق وهو لزوم اللغو في الكلام على حاله إذ لو كان المراد بقوله: { رسالته } الرسالة الخاصة بهذا الحكم كان المعنى: بلغ هذا الحكم وإن لم تبلغه فما بلغته، وهو لغو ظاهر.
فالمراد أن بلغ هذا الحكم وإن لم تبلغه فما بلغت أصل رسالته أو مجموعها، وهو معنى صحيح معقول، وحينئذٍ يرد الكلام نظير المورد الذي ورده قول أبي النجم: " أنا أبو النجم وشعري شعري ".
وأما كون هذا الحكم بحيث لو لم يبلغ فكأنما لم تبلغ الرسالة فإنما ذلك لكون المعارف والأحكام الدينية مرتبطة بعضها ببعض بحيث لو أُخل بأمر واحد منها أُخل بجميعها وخاصة في التبليغ لكمال الارتباط، وهذا التقدير وإن كان في نفسه مما لا بأس به لكن ذيل الآية وهو قوله: { والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين } لا يلائمه فإن هذا الذيل يكشف عن أن قوماً كافرين من الناس هموا بمخالفة هذا الحكم النازل أو كان المترقب من حالهم أنهم سيخالفونه مخالفة شديدة، ويتخذون أي تدبير يستطيعونه لإِبطال هذه الدعوة وتركه سدى لا يؤثر أثراً ولا ينفع شيئاً وقد وعد الله رسوله أن يعصمه منهم، ويبطل مكرهم، ولا يهديهم في كيدهم.
ولا يستقيم هذا المعنى مع أي حكم نازل فرض فإن المعارف والأحكام الدينية في الإِسلام ليست جميعاً في درجة واحدة ففيها التي هي عمود الدين، وفيها الدعاء عند رؤية الهلال، وفيها زنى المحصن وفيها النظر إلى الأجنبية، ولا يصح فرض هذه المخافة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوعد بالعصمة من الله مع كل حكم حكم منها كيفما كان بل في بعض الأحكام.
فليس استلزام عدم تبليغ هذا الحكم لعدم تبليغ غيره من الأحكام إلاَّ لمكان أهميته ووقوعه من الأحكام في موقع لو أُهمل أمره كان ذلك في الحقيقة إهمالاً لأمر سائر الأحكام، وصيرورتها كالجسد العادم للروح التي بها الحياة الباقية والحس والحركة، وتكون الآية حينئذٍ كاشفة عن أن الله سبحانه كان قد أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بحكم يتم به أمر الدين ويستوي به على عريشة القرار، وكان من المترقب أن يخالفه الناس ويقلبوا الأمر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحيث تنهدم أركان ما بناه من بنيان الدين وتتلاشى أجزاؤه، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتفرس ذلك ويخافهم على دعوته فيؤخر تبليغه إلى حين بعد حين ليجد له ظرفاً صالحاً وجواً آمناً عسى أن تنجح فيه دعوته، ولا يخيب مسعاه فأمره الله تعالى بتبليغ عاجل، وبين له أهمية الحكم، ووعده أن يعصمه من الناس، ولا يهديهم في كيدهم، ولا يدعهم يقلبوا له أمر الدعوة.
وإنما يتصور تقليب أمر الدعوة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإبطال عمله بعد انتشار الدعوة الإِسلامية لا من جانب المشركين ووثنية العرب أو غيرهم كأن تكون الآية نازلة في مكة قبل الهجرة، وتكون مخافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الناس من جهة افترائهم عليه واتهامهم إياه في أمره كما حكاه الله سبحانه من قولهم:
{ معلم مجنون }
[الدخان: 14]، وقولهم:
{ شاعر نتربص به ريب المنون }
[الطور: 30]، وقولهم:
{ ساحرٍ أو مجنون }
[الذاريات: 52]، وقولهم:
{ إن تتبعون إلاَّ رجلاً مسحوراً }
[الفرقان: 8]، وقولهم:
{ إن هذا إلاَّ سحرٌ يؤثر }
[المدثر: 24]، وقولهم:
{ أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً }
[الفرقان: 5]، وقولهم:
{ إنما يعلمه بشر }
[النحل: 103]، وقولهم:
{ أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد }
[ص: 6]، إلى غير ذلك من أقاويلهم فيه صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذه كلها ليست مما يوجب وهن قاعدة الدين، وإنما تدل - إذا دلَّت - على اضطراب القوم في أمرهم، وعدم استقامتهم فيه على أن هذه الافتراءات والمرامي لا تختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يضطرب عند تفرسها ويخاف وقوعها فسائر الأنبياء والرسل يشاركونه في الابتلاء بهذه البلايا والمحن، ومواجهة هذه المكاره من جملة أُممهم كما حكاه الله تعالى عن نوح ومن بعده من الأنبياء المذكورين في القرآن.
بل إن كان شيء - ولا بد - فإنما يتصور بعد الهجرة واستقرار أمر الدين في المجتمع الإِسلامي والمسلمون كالمعجون الخليط من صلحاء مؤمنين وقوم منافقين أولي قوة لا يستهان بأمرهم، وآخرين في قلوبهم مرض وهم سماعون - كما نص عليه الكتاب العزيز - وهؤلاء كانوا يعاملون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم - في عين أنهم آمنوا به واقعاً أو ظاهراً - معاملة الملوك، ومع دين الله معاملة القوانين الوضعية القومية كما يشعر بذلك طوائف من آيات الكتاب قد تقدم تفسير بعضها في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب.
فكان من الممكن أن يكون تبليغ بعض الأحكام مما يوقع في الوهم انتفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتشريعه وإجرائه يستوجب أن يقع في قلوبهم أنه ملك في صورة النبوة وقانون ملكي في هيئة الدين كما ربما وجد بعض شواهد ذلك في مطاوي كلمات بعضهم.
وهذه شبهة لو كانت وقعت هي أو ما يماثلها في قلوبهم ألقت إلى الدين من الفساد والضيعة ما لا يدفعه أي قوة دافعة، ولا يصلحه أي تدبير مصلح فليس هذا الحكم النازل المأمور بتبليغه إلاَّ حكماً فيه توهم انتفاع للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، واختصاص له بمزية من المزايا الحيوية لا يشاركه فيها غيره من سائر المسلمين، نظير ما في قصة زيد وتعدد الأزواج والاختصاص بخمس الغنائم ونظائر ذلك.
غير أن الخصائص إذا كانت مما لا تمس فيه عامة المسلمين لم يكن من طبعها إثارة الشبهة في القلوب فإن الازدواج بزوجة المدعو ابناً مثلاً لم يكن يختص به والازدواج بأكثر من أربع نسوة لو كان تجويزه لنفسه عن هوى بغير إذن الله سبحانه لم يكن يمنعه أن يجوّز مثل ذلك لسائر المسلمين، وسيرته في إيثار المسلمين على نفسه في ما كان يأخذه لله ولنفسه من الأموال ونظائر هذه الأمور لا تدع ريباً لمرتاب ولا يشتبه أمرها لمشتبه دون أن تزول الشبهة.
فقد ظهر من جميع ما تقدم أن الآية تكشف عن حكم نازل فيه شوب انتفاع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، واختصاصه بمزية حيوية مطلوبة لغيره أيضاً يوجب تبليغه والعمل به حرمان الناس عنه فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاف إظهاره فأمره الله بتبليغه وشدد فيه، ووعده العصمة من الناس وعدم هدايتهم في كيدهم إن كادوا فيه.
وهذا يؤيد ما وردت به النصوص من طرق الفريقين أن الآية نزلت في أمر ولاية علي عليه السلام، وأن الله أمر بتبليغها وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاف أن يتهموه في ابن عمّه، ويؤخر تبليغها وقتاً إلى وقت حتى نزلت الآية فبلغها بغدير خم، وقال فيه: من كنت مولاه فهذا علي مولاه.
وكون ولاية أمر الأُمة مما لا غنى للدين عنه ظاهر لا ستر عليه، وكيف يسوغ لمتوهم أن يتوهم أن الدين الذي يقرر بسعته لعامة البشر في عامة الأعصار والأقطار جميع ما يتعلق بالمعارف الأصلية، والأصول الخلقية، والأحكام الفرعية العامة لجميع حركات الإِنسان وسكناته، فرادى ومجتمعين على خلاف جميع القوانين العامة لا يحتاج إلى حافظ يحفظه حق الحفظ؟ أو أن الأُمة الإِسلامية والمجتمع الديني مستثنى من بين جميع المجتمعات الإِنسانية مستغنية عن وال يتولى أمرها ومدبر يدبرها ومجر يجريها؟ وبأي عذر يمكن أن يعتذر إلى الباحث عن سيرة النبي الاجتماعية؟ حيث يرى أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خرج إلى غزوة خلف مكانه رجلاً يدير رحى المجتمع، وقد خلف عليّاً مكانه على المدينة عند مسيره إلى تبوك فقال: يا رسول الله أتخلفني على النساء والصبيان؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: