الفصل الثاني: أدلة التطبير وأحكامه
قد يتساءل البعض هل التطبير في عزاء الحسين (عليه السلام) عمل جائز في الشريعة الإسلامية أم لا؟
وإذا كان جائزاً هل يصح فعله في هذه الأيام أم لا؟
وللإجابة على هذين السؤالين نقول:
نعم.. التطبير جائز في الشريعة الإسلامية بل هو عمل مستحب بل أفتى بعض العلماء بوجوبه العيني وبعضهم بوجوبه الكفائي.. ولنا في ذلك أدلة نذكر أبرزها..
أصالة الإباحة:
الأول: لقد ثبت في علم الأصول أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا إذا قام الدليل على حرمتها وقد اتفق الأصوليون على هذا المبنى ولم يخالف فيه أحد..
وهم جميعاً في الفقه يعملون بهذا الأصل عند فقدان النص على الخلاف.. وقد وردت في ذلك مجموعة من الروايات منها:
قوله (عليه السلام): (كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام)(1).
وقوله (عليه السلام) (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي)(2).
والظاهر أن المراد من قوله (عليه السلام) (حتى يرد) حتى يصل فالورود بمعنى الوصول هنا لا الصدور.
وسواء أريد من (كل شيء حلال) و(كل شيء مطلق) الإباحة الشرعية الواقعية أو الإباحة الظاهرية المجهولة للشاك(3) لا فرق، كلا الاحتمالين يدلان على أصالة الإباحة والحل في الأشياء التي لم يقم الدليل على حرمتها.. هذا بناءً على كون مسألة الأصل في الأشياء الحظر والإباحة هو عين مسألة البراءة والاشتغال وان كان لا يختلف الأمران سواء قلنا انهما بحثان أو بحث واحد فإن كليهما يدللان على أصالة الإباحة في الأشياء سوى أن الفرق بينهما أن الأول عقلي قبل الشريعة والثاني بعد الشريعة.
قال المحقق الأنصاري في الرسائل الصفحة (199):
(قوله (عليه السلام) في مرسلة الفقية كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي استدل به الصدوق... واستند إليه في أماليه حيث جعل إباحة الأشياء حتى يثبت الحظر من دين الأمامية. ودلالته على المطلوب أوضح من الكل).
وقال المحقق الخراساني في الكفاية الصفحة (49) طبعة بغداد لدى الاستدلال بالحديث الأول: (ومنها قوله (عليه السلام) (كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه) حيث دل على حليّة ما لم يعلم حرمته مطلقاً).
وقد أيد جميع الأصوليين قديماً وحديثاً هذا المبنى، بل أيد هذا المبنى الأخباريون أيضاً فإنهم يرون أن الحكم فيما لم يرد فيه دليل عقلي أو نقلي على تحريمه من حيث أنه مجهول الحكم في الشبهات البدوية التحريمية فقط وهو الاحتياط العقلي والشرعي، وإلا فإن الموارد التي لا يوجد فيها دليل على الحرمة ونحوها أتفق الأصوليون والأخباريون معاً على جريان الإباحة فيها(4).
بل هناك إجماع عملي عند المسلمين كاشف عن رضا المعصوم (عليه السلام) قائم على معاملة الأشياء معاملة الإباحة عند فقد النص على الخلاف. فإن سيرة المسلمين من أول الشريعة بل لعله في كل شريعة على عدم الالتزام والإلزام بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من الشارع بعد الفحص وعدم وجدان الأدلة وإن طريقة الشارع كانت تبليغ المحرمات دون المباحات وليس ذلك إلا لعدم احتياج الرخصة والإباحة في الفعل إلى البيان وكفاية عدم وجدان النص الدال على النهي فيها على الإباحة.
قال المحقق الحلي (قدس سره)(5):
(إن أهل الشرائع كافة لا يخطئون من بادر إلى تناول شيء من الشبهات سواء علم الإذن فيها من الشرع أم لم يعلم ولا يوجبون عليه عند تناول شيء من المأكول والمشروب إن يعلم التنصيص على إباحته ويعذرونه في كثير من المحرمات إذا تناولها من غير علم، ولو كانت محظورة لأسرعوا إلى تخطئته حتى يعلم الإذن).
أقول: وهذا أيضاً مما يؤيد حكم العقل أيضاً إذ أن العقل البشري يحكم بقبح العقاب على شيء دون بيان حكمه ووصوله إلى العبد من قبل مولاه.
وقد جمع الفقهاء هذا الدليل بجملة واحدة اعتبروها قاعدة مسلمة في الأصول والفقه هي قاعدة البراءة العقلية القائلة بـ (قبح العقاب بلا بيان).
وفي كل ما تقدم بحوث مفصلة ذكرها الأعلام في كتب الأصول ليس هنا محل ذكرها. ولكن المستفاد من كل ما تقدم هو: إن الأصل في الأشياء هو الإباحة حتى يعلم بوجود النهي عنها..
والتطبير حسب هذا الأصل يكون مباحاً.. حيث لم ينه عنه الشارع المقدس وليس في المصادر الفقهية الموجودة بأيدينا دليل على حرمة الجرح والإدماء. وكل ما لم ينه عنه الشارع يعد مباحاً في الشريعة.
ومن هنا أفتى سائر الفقهاء بإباحته وجوازه.
وإذا ثبتت إباحته يثبت استحبابه أيضاً إن لم يثبت الوجوب كما قال بعض الفقهاء وذلك لقيام جملة من الأدلة على الاستحباب ولما ثبت في محله أيضاً أن العمل بالمباحات في الجملة هو بنفسه عمل مستحب كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
زينب (عليها السلام) تشق جبينها
الثاني: صدور الإدماء من بعض أهل بيت الحسين (عليهم الصلاة والسلام) وهم أهل بيت العصمة والطهارة، ففي الخبر المصحح:
أن زينب الكبرى (عليها صلوات الله وسلامه) لما رأت في الكوفة رأس أخيها على رأس رمح نطحت جبينها بمقدم المحمل حتى سال دمها.
قال العلامة المجلسي (قدس سره) في البحار(6):
(رأيت في بعض الكتب المعتبرة روى مرسلاً عن مسلم الجصاص قال:
دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة فبينما أنا أجصص الأبواب وإذا أنا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة فأقبلت على خادم كان معنا فقلت: مالي أرى الكوفة تضج؟ قال: الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد فقلت: من هذا الخارجي؟ فقال: الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: فتركت الخادم حتى خرج ولطمت وجهي حتى خشيت على عيني أن يذهب (بصرها). وغسلت يدي من الجص وخرجت من ظهر القصر وأتيت إلى الناس. فبينما أنا واقف والناس يتوقعون وصول السبايا والرؤوس إذ أقبلت نحو أربعين شقة تحمل على أربعين جملاً فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة (عليها السلام) وإذ بعلي بن الحسين (عليهما السلام) علي بعير بغير وطاء وأوداجه تشخب دماً وهو مع ذلك يبكي ويقول:
يا أمة السوء لا سقياً لربعكم***يا أمة لم تراع جدنا فينا
لو أننا ورسول الله يجمعنا***يوم القيامة ما كنت تقولينا
تسيرونا على الأقتاب عارية***كأننا لم نشيد فيكمو دينا
... حتى قال:
أليس جدي رسول الله ويلكمو***أهدى البرية من سبل المضلينا
يا وقعة الطف قد أورثتني حزناً***والله يهتك أستار المسيئينا
قال: وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز فصاحت بهم أم كلثوم وقالت: يا أهل الكوفة إن الصدقة علينا حرام وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم وترمي به الأرض قال كل ذلك والناس يبكون على ما أصابهم..
ثم أن أم كلثوم أطلعت رأسها من المحمل وقالت لهم: صه! يا أهل الكوفة تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم؟ فالحكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء فبينما هي تخاطبهن إذا بضجة قد ارتفعت فإذا هم أتوا بالرؤوس يتقدمهم رأس الحسين (عليه السلام) وهو رأس زهري قمري أشبه الخلق برسول الله (صلى الله عليه وآله) ولحيته كسواد السّبح قد انتصل منها(7) الخضاب ووجهه دائرة قمر طالع والرمح(
تلعب بها يميناً وشمالاً (فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدم المحمل حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها وأومأت إليه بحرقة وجعلت تقول:
يـا هـلالاً لما استتـم كمـالا***غـاله خسفه فأبدا غروبـا
مـا توهمت يا شقيق فـؤادي***كـان هـذه مقدّرا مكتوبـا
يـا أخي فاطم الصغيرة كلمهـا***فقد كـاد قلبها أن يذوبـا
يـا أخي قلبـك الشفيق علينـا***ماله قد مشى وصار صليبا؟
يا أخي لو ترى علياً لدى الأسر***مـع اليتم لا يطيق وجوبا
كـلما أوجعوه بـالضرب نادا***ك بذلّ يغيـض دمعاً سكوبـا
يـا أخـي ضمّه إليـك وقربّه***وسـكّن فـؤاده المـرعوبـا
مـا أذلّ اليـتم حـين يـنادي***بـأبيه ولا يـراه مجيـبـا)
إلى آخر الكلام.
وقد روى هذه الحادثة أيضاً في العوالم والسيد عبد الله شبر (قدس سره) في جلاء العيون الجزء الثاني صفحة (238)(9)، وفخر الدين الطريحي في المنتخب الجزء الثاني المجلس العاشر الصفحة (478)، وقد صحح هذا الخبر شيخ الشريعة الأصفهاني (قدس سره) مع جملة من الأخبار الواردة بشأن عزاء سيد الشهداء وإظهار الجزع وإيلام النفس حسرة على ما دهاه (10).
ومن موقف عقيلة الطالبيين هذا يستفاد جواز إسالة الدم أو إظهار الجزع على المولى سيد الشهداء وذلك لأمرين:
الأول: إن هذا الموقف حصل في محضر الإمام المعصوم علي بن الحسين (عليهما السلام) ونال تقريره وكان في وسع الإمام (عليه السلام) أن ينهاها عن هذه العملية لو كان فيها حضر شرعي، ولكنه لم ينهها، وعدم نهيه دليل موافقته، وقد ثبت في محله من علم الأصول إن تقرير الإمام المعصوم حجة شرعية.
الثاني: نفس العقيلة الكبرى (عليها صلوات المصلين) تحظى بمقام العصمة الصغرى، وهو مقام معنوي رفيع يبعد عنها احتمال الإقدام على عمل لم تحرز جوازه الشرعي، وقد شهد لها بهذا المقام السامي الرفيع عدة كبيرة من الأعيان والأعلام فضلاً عن شهادة الإمام المعصوم (عليه السلام) وكفى بتعريف الإمام زين العابدين لها بقوله (عليه السلام):
(أنت بحمد الله عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهّمه)(11).
يريد أن مادة علمها (عليها السلام) من سنخ ما منح به رجالات بيت النبوة ومعدن العلم وأهل بيت الوحي، فعلومهم (عليهم السلام) ليست اكتسابية تحصل بالدراسة والتخرج على يد الأساتذة والمعلمين بل علومهم حضورية.. تحصل بالإلهامات الربانية أو بالإفاضات على حسب القابليات، كما ثبت بالأدلة العقلية والنقلية أنهم يملكون الاسم الأعظم(12) كما عندهم آيات الأنبياء: وراثة كما ورد في الزيارة الجامعة (وعندكم مواريث الأنبياء) كألواح موسى وعصاه وخاتم سليمان بل لديهم جميع كتب الأنبياء وعلومهم وآياتهم أيضاً، وعندهم الجفر والجامعة ومصحف فاطمة وما يحدث بالليل والنهار بل هم أوعية العلم الإلهي.
وقد شهد لأهل البيت بذلك حتى يزيد بن معاوية بقوله في الإمام السجاد (عليه السلام) في الشام (إنه من أهل بيت قد زقوا العلم زقّا)(13) وقد فصل ذلك علماؤنا الأعلام في الكتب الكلامية فراجع.
أقول: وزينب بنت علي (عليها السلام) من أهل هذا البيت علومها لدنية إلا أنها دون مرتبة الإمامة والعصمة الكبرى الثابتة للمعصومين الأربعة عشر.. ومن هنا كانت مصدراً للفتوى ونشر الأحكام..
فعن الصدوق محمد بن بابويه القمي طاب ثراه(14):
(كانت زينب (عليه السلام) لها نيابة خاصة عن الحسين (عليه السلام) وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتى برئ زين العابدين (عليه السلام) من مرضه).
وقال الطبرسي:
أن زينب (عليها السلام) روت أخباراً كثيرة عن أمها الزهراء (عليها السلام) وعن عماد المحدثين... أن زينب كانت تروي عن أمها وأبيها وأخويها وعن أم سلمة وأم هاني وغيرهما من النساء وممن روى عنها ابن عباس وعلي بن الحسين وعبد الله بن جعفر وفاطمة بنت الحسين الصغرى وغيرهم.
وقال أبو الفرج الأصفهاني:
زينب العقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة صلى الله عليها في فدك فقال حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي (عليها السلام).
ومعنى العقيلة في النساء السيدة، كعقال في الرجال يقال للسيد.
بل ويظهر من العلامة الدربندي وغيره: أنها كانت تعلم علم المنايا والبلايا كجملة من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) منهم ميثم التمار ورشيد الهجري وغيرهما، بل جزم في (أسرار الشهادة) إنها صلوات الله عليها أفضل من مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم وغيرهما من فضليات النساء.
زينب الكبرى... يكفي في جلالة قدرها ونبالة شأنها ما ورد في بعض الأخبار من أنها دخلت على الحسين (عليه السلام) وكان يقرأ القرآن فوضع القرآن على الأرض وقام لها إجلالاً.
وبعد كل هذا المقام العظيم وجلالة القدر عصمة وعلماً والتي شهد بها أعلام المسلمين نفهم أن ما صدر من مولاتنا العقيلة في مصاب أخيها سيد الشهداء في شق جبينها الطاهر بمقدم المحمل وإسالة الدم هو وحده كاف في الدلالة على جواز شق الرؤوس وإسالة الدماء حزناً وتأسفاً عليه لما لها من مقام وعظمة.. فكيف به إذا حضي بتقرير الإمام المعصوم (عليه السلام) وموافقته له.
قال الفاضل الدربندي (قدس سره) سنة 1286 هجرية في (أسرار الشهادة) صفحة (474 - 475) عن هذه الحادثة وما يستفاد منها شرعاً (مع تصرف قليل):
(أعلم إن قضية نطح زينب بنت أمير المؤمنين (عليه السلام) رأسها بمقدم المحمل بحيث أنه جرح وجرى الدم منه يكشف فحوىً عن أن ما لا يجوز فعله في مصيبة غير آل محمد من الجزع الشديد وشق الثياب والجيوب ولطم الصدور وخمش الوجوه وحث التراب والرماد على الرؤوس وضربها بالأكف وتلطخ الجسد بالوحل والألوان المسودة وما يشبه ذلك يجوز فعله في مصائب آل محمد صلوات الله عليهم ولا سيما في مصائب سيد الشهداء روحي له الفداء بل إن استنباط الكل ما أشرنا إليه من الأخبار الكثيرة وفقرات الزيارات الوفيرة استنباطاً تطابقاً أو التزاماً مما لا يشك فيه العالم العريض التتبع والشديد التيقظ. بل يمكن أن يقال أن جواز كل ذلك بل استحبابه مما عليه السيرة والضرورة من المذهب. وأما بالنسبة إلى ما فعلته زينب بنت أمير المؤمنين (عليها السلام) فلا إشكال في الإفتاء عليه أصلاً، لأن ما فعلته (عليها السلام) كان في محضر من حجة الله على جميع خلقه سيد الساجدين فكما أن فعل المعصوم وقوله حجتان فكذا تقريره، على أنه قد تقدم ما يدل على كون زينب محدثة وتالية لمرتبة العصمة بل هي من جملة من اتصف بالعصمة لكن على النهج الذي أشرنا إليه..
فإن قلت: إن قضية نطح زينب رأسها بمقدم المحمل لم يرد إلا في خبر مرسل عن مسلم الجصّاص وهو أيضاً الحال فكيف يجوز أن تخصص به العمومات وبعض القواعد البالغة حد أصول المذهب بالمعنى الأخص على أن الحكم بحرمة مثل ذلك ولو كان ذلك في تعزية سيد الشهداء وعند ذكر مصائبه من المسائل الاتفاقية الإجماعية؟
قلت: إن وصف المحقق المجلسي الكتاب الذي اخذ هذا الخبر عنه بكونه من الكتب المعتبرة يصيّر هذا الخبر بمنزلة ما هو محرز لشرائط العمل به. فعلى البناء على اتساع الدائرة في باب الأخبار يجوز تخصيص العمومات به. وأما دعوى أن القاعدة التي على خلاف ما يفيده هذا الخبر من أصول المذهب بالمعنى الأخص كدعوى أن هذه المسألة بخصوصها من المسائل الاتفاقية والإجماعية فمن الدعاوى الجزافية. إذ كون القاعدة من أصول المذهب بالمعنى الأخص أول الكلام. والمسألة بخصوصها لم تعنون بكتاب من كتب الأصحاب فكيف تكون من الاتفاقيات أو مما أدعي في شأنها الاتفاق والإجماع؟!
فقد بان من ذلك كله أن الحكم بالجواز مما لا يخلو عن قوة ولا سيما إذا لوحظ ما في الأمصار وفي جميع الإعصار ما يفعله جمع من شبان الشيعة بل وكهولهم وشيوخهم أيضاً من لطمهم صدورهم وجباههم ورؤوسهم بالحجر والحديد ونحو ذلك حتى تدمى هذه الأعضاء وتجرح في محضر من أكابر الدين وأعاظم المذهب من العلماء والصلحاء وهم لا يمنعونهم عن ذلك، بل يشتد بكاؤهم ويعلو نحيبهم فكأن طبايع جمع قد جبلت على فعل أمثال ذلك في أيام العشر الأول من المحرم. أما سمعت حديث مسلم الجصّاص حيث قال ولطمت وجهي حتى خشيت على عيني أن تذهبا. وبالجملة فإن ذلك ليس إلا لأمر أصلي صادر من رضا المعصومين (عليهم السلام) وبذلك مع كونه على طبق الأصل الأولي، لكون المقام من صقع الشبهة التحريمية الحكمية مع عدم سبق العلم الإجمالي في البين) انتهى(15).
أهل البيت يبكون دماً على الحسين (عليه السلام)
الثالث: صدور الإدماء بالفعل من قبل عدد من المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) حزناً على الحسين (عليه السلام) ليس من الرأس بل من العين التي هي أخطر وأرق من الرأس...
ففي رواية رواها المجلسي في البحار وفي جلاء العيون:
(أن الإمام زين العابدين إذا أخذ إناءً ليشرب يبكي حتى يملأه دماً).
وفي الأمالي للصدوق الصفحة (78) عن إبراهيم بن محمود عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: (... إن يوم الحسين أقرح جفوننا...) وفي زيارة الناحية يندب الإمام ولي العصر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) جده الحسين بما هو أكبر وأعظم حتى من الإدماء حيث يقول (عليه السلام):
(ولئن أخرتني الدهور وعاقني نصرك المقدور ولم أكن لمن حاربك محارباً ولمن نصب لك العداوة مناصباً فلأندبنّك صباحاً ومساءً ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً حسرة عليك وتأسفاً على ما دهاك وتلهفاً حتى أموت بلوعة المصاب وغصة الاكتياب...)(16).
وفي قوله (عجل الله تعالى فرجه): (ولأبكين عليك بدل الدموع دماً) تأكيد، لأن: (اللام) و(النون) مما يشير إلى شدة البكاء وكثرته ودوامه إن في الفعل المضارع (أبكين) دلالة على الدوام والاستمرار.. ومن الواضح أن من يستمر طول دهره يبكي دماً سينتابه من الآلام والأمراض ما قد يؤول به إلى الموت ومن هنا جعل الإمام (عجل الله فرجه الشريف) الموت غاية ينتهي بها بكاؤه (عليه السلام) فهو يبكي ويظل يبكي طول دهره وعمره الشريف حتى يموت أسىً ولوعة حيث قال (عليه السلام): (حتى أموت بلوعة المصاب وغصة الاكتياب).
كما أن في قول الرضا (عليه السلام): (إن يوم الحسين أقرح جفوننا) دلالة واضحة على استمرار بكاء أهل البيت (عليهم السلام) طول حياتهم، حيث أن القرح في العين لا يحصل إلا بعد كثرة البكاء وشدته في مدة طويلة كما يفصح به قوله (عليه السلام) في تتمة الحديث: (وأسبل دموعنا) والدمع يسبل إذا هطل كما لا يخفى.
وهذا طبعاً ليس مبالغة في الكلام من قبل المعصوم (عليه السلام) لعدم صحته على مذهبنا، ولأصالة حمل كلام المتكلم على الحقيقة، لأن المبالغة نوع من المجاز، والأصل عدم المجاز، ويؤيد هذا ما ورد في الأخبار أن هذا شأن الزهراء (عليها السلام) كل يوم، فإنها تشهق على ولدها حتى يسكتها أبوها(17) والشهيق له معان عديدة كلها تشترك في بيان عظم البكاء والحزن، منها ما جاء في تفسير الفخر الرازي لدى تفسير هذه الآية: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق):
الزفير: ما يجتمع في الصدر من النفس عند البكاء الشديد فينقطع النفس، والشهيق: هو الذي يظهر عند اشتداد الكربة والحزن وربما تبعها الغشية وربما حصل عقيبة الموت(18).
ومن هنا نعرف استحباب شدة البكاء على الحسين (عليه السلام) ولو استلزم قرح العين بل ولو استلزم حصول آفة في العين أو ذهاب نور البصر أو أذاها.. عند جماعة من الفقهاء كالعلامة الطباطبائي الحائري (قدس سره) والشيخ علي البحراني المتوفى سنة 1319 في رسالته المسماة (قامعة أهل الباطل) في الصفحة 20 – 27(19).
قال الطريحي في المنتخب، المجلس الثامن من الجزء الثاني - الباب الأول - الصفحة: 395:
(فيا هذا... أيلام من شق الجيوب القلوب لا جيوب الثياب؟! أو يعنف من أجرى الدماء لا الدموع على هذا المصاب؟! كلا.. حاشا لله حقهم لا يقضى، وشكرهم لا يؤدى، لكن من بذل الاجتهاد كان جديراً أن يحصل المراد). وقال في الصفحة(70) أيضاً:
(فلعمري لو تضاعفت أحزاني وتزايدت أشجاني وأجريت عوض الدموع دماً وجعلت عمري كله مأتماً وبقيت من شدة الجزع والاكتياب كالحلال لم أوف ببعض ما يجب علي من حق الآل).
كما قال السيد محسن الأمين في المجالس السنية الجزء الرابع - المجلس الواحد الثلاثون بعد المائتين - الصفحة 260.
(قد قضى العقل والدين باحترام عظماء الرجال أحياء وأمواتاً وتجديد الذكرى لوفاتهم وإظهار الحزن عليهم لا سيما من بذل نفسه وجاهد حتى قتل لمقصد سام وغاية نبيلة، وقد جرت على ذلك الأمم في كل عصر وزمان وجعلته من أفضل أعمالها وأسنى مفاخرها، فحقيق بالمسلمين بل جميع الأمم أن يقيموا الذكرى للحسين (عليه السلام) فإنه من عظماء الرجال وأعاظمهم في نفسه ومن الطراز الأول... وحقيق بمن كان كذلك أن تقام له الذكرى في كل عام وتبكي له العيون دماً بدل الدموع وأي رجل في الكون قام بما قام به الحسين (عليه السلام)..)
وشبيه هذا الكلام ذكره المقرّم في المقتل(20) وكذلك أيضاً قول الحجة المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف): (ولأبكين عليك بدل الدموع دماً) ليس من قبيل المبالغة في التعبير وإنما من باب بيان ما يستحقه من إظهار التأسف والحسرة مقابل تلك المصائب كما هو المتعارف في التعبير عند البعض لدى إرادة الكشف عن أمر مهم، وذلك لما ثبت في محلة من أصول الدين من تنزيه كلام المعصوم (عليه السلام) عن المبالغات الكلامية التي لا واقعية لها، لاستلزامه الكذب أحياناً - والعياذ بالله - ومن ثم الإضلال في بيان الواقع مما قد يناقض وجودهم ودورهم في هذا الوجود (عليهم السلام).
ومن الثابت أن البكاء بدل الدمع دماً قسمان:
القسم الأول: أن تشتد حرارة الباكي وتتدفق دموعه حتى تمزق الشرايين الرقيقة في الأجفان فيهمي منها الدم.
والقسم الثاني: أن ينشج الباكي بالبكاء وتتدفق دموعه حتى لا تتاح الفرصة للدم حتى ينقلب دمعاً لأن الدمع هو بخار الدم فإذا قلّت الرطوبة وكثر البكاء أو أسرع البكاء من قابلية تبخر رطوبات الدم فإن الدم نفسه يجري في عروق الأجفان(21).
أقول: ومن كل ما تقدم يظهر جواز إسالة الدم من الرأس حزناً على سيد الشهداء (عليه السلام) في مواكب التطبير بشكل أولى، وذلك لأنه إذا جاز إدماء العيون التي هي من أهم وأرق أعضاء الإنسان، بل وصدر ذلك من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) فقد جاز التطبير بطريق أولى، بل إذا كان الإمام صاحب العصر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يبكي الحسين دماً طول عمره الشريف حتى يموت ألماً وحسرة عليه، فكيف لا يجوز لشيعته الموالين أن يشقوا رؤوسهم ويجرون دماءهم يوم عاشوراء حزناً عليه وتلهفاً لما دهاه وأطفاله وعياله في وادي الكرب والبلاء.
ولعل من هذا ما ورد عن أبي ذر الغفاري (رضوان الله عليه) أنه قال لما ذكر بعض الناس مقتل الحسين، ما معناه: (لو علمتم بعظم تلك المصيبة لبكيتم حتى تزهق أنفسكم)(22).
كما وردت في خطبة للأمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) عند رجوعه إلى المدينة بعد وقائع عاشوراء ومسيرة السبايا كلمات شجية أشارت إلى صحة تحمل الآلام والأضرار حتى بما هو أعظم وأشد من إسالة الدم على مصاب المولى سيد الشهداء (عليه السلام) حيث قال في ضمن ما قال:
(أيها الناس إي قلب لا ينصدع لقلته؟ أم أي فؤاد لا يحن إليه؟ أم أي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم؟!)(23) قال المرحوم السيد عبد الرزاق المقرم في المقتل:
(فمصابه يقل فيه البكاء ويعز عنه العزاء! فلو تطايرت شظايا القلوب وزهقت النفوس جزعاً لذلك الحادث الجلل لكان دون واجبه...)(24).
خمش الوجوه
الرابع: ورود الأدلة العديدة بجواز خمش الوجوه في مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) ومن الواضح إن خمش الوجه يلازم الإدماء عادة فإذا جاز خمش الوجه فقد جاز الإدماء أيضاً في الجملة، خصوصاً وأنه حاز على تقرير الإمام المعصوم (عليه الصلاة والسلام)، بما يجعله حجة شرعية، فقد روى السيد ابن طاووس في كتابه (اللهوف) ولما أخبر بشير بن حذلم أهل المدينة بمقتل الحسين (عليه السلام) ورجوع زين العابدين (... فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا برزن من خدورهن مخمشة وجوههن ضاربات خدودهن يدعون بالويل والثبور)(25).
بل جاء في بعض الروايات خمش الوجه بصيغة الأمر، حيث ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث موثق أنه قال:
(... على مثل الحسين فلتشق الجيوب ولتخمش الوجوه ولتلطم الخدود..)(26).
وقد ثبت في محله من الأصول أن الأمر ظاهر الوجوب وتتأكد الدلالة في الوجوب إذا كان الأمر بصيغة المضارع كما في قوله (عليه السلام): (فلتشق ولتخمش) وإذا اتصل به لام الأمر، فيتضاعف تأكيد الوجوب أكثر ولعله بهذه التأكيدات (صيغة المضارع، واللام) المنضمة إلى ظهور الأمرية في الوجوب يمكن أن يستدل على وجوب خمش الوجه وليس جوازه فقط.. وإذا تنزلنا من الوجوب نحمله على الاستحباب، وبذلك يظهر أن خمش الوجه على الحسين (عليه السلام) مستحب أن لم يكن واجبا. وبما أن خمش الوجه يلازم الإدماء، يصبح الإدماء مستحباً أيضاًًًًًًً لأنه يلازم المستحب، بناء على أن اللازم يأخذ حكم ملزومه أيضا، أو يكون جائزا على الأقل، وإلا يلزم منه المحال إذ لا يعقل أن يكن خمش الوجه واجبا أو مستحبا أو حتى مباحا كما في الأدلة المتقدمة ولكن يكون حكم لازمه - وهو الإدماء - الحرمة، للزوم الخلف، ولعدم القدرة على الامتثال حينئذ (فتأمل).
ومن مجموع الأدلة المتقدمة يستفاد إباحة التطبير على الحسين (عليه الصلاة والسلام) وجوازه على أقل التقادير، ولكن هناك مجموعة من الأدلة الأخرى التي يمكن أن نستفيد منها استحبابه أيضا نذكر بعضها:
أدلة استحباب التطبير
الأول: تحبيب الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) الجزع على الحسين (عليه السلام) فقد روى الشيخ في المصابيح مسندا عن أبي جعفر (عليه السلام) فيمن يزور الحسين عن بعد في يوم عاشوراء...
(وليقم في داره المصيبة بإظهار الجزع عليه)(27).
وقد جزع الإمام السجاد (عليه السلام) يوم الحادي عشر من المحرم كما في الزيارات من قوله (عليه السلام) لعمته العقلية (كيف لا أجزع ولا أهلع وقد أرى أبي وعمومتي وولد عمي صرعى لا يوارون)(28).
بل أن الإمام الصادق (عليه السلام) دعا بالرحمة لمن جزع على مصائب أهل البيت (عليهم السلام). ولم يكن الجزع محبوباً مرغوباً فيه في الشريعة السمحاء لما دعا الإمام (عليه السلام) للجازعين في رواية رواها المجلسي في مزار البحار باب (زيارة الحسين واجبة مفترضة)(29) عن ابن أبي عمير عن معاوية بن وهب قال:
دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وهو في مصلاه فجلست حتى قضى صلاته فسمعته وهو يناجي ربه ويقول: يا من خصنا بالكرامة ووعدنا بالشفاعة وحمّلنا الرسالة وجعلنا ورثة الأنبياء وختم بنا الأمم السالفة وخصنا بالوصية وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقى وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا اغفر لي ولإخواني وزوار قبر أبي الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) الذين أنفقوا أموالهم واشخصوا أبدانهم رغبة في برّنا...
اللهم ..... ارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس وارحم تلك الخدود التي تقلبت على قبر أبي عبد الله (عليه السلام) وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا... الخ.
وقد مدح الإمام الصادق (عليه السلام) مسمع كردين بقوله:
(أما انك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا).
والرواية مفصلة رواها ابن قولوية في كامل الزيارات في الصفحة: (101)، أقول: ومعلوم أن الجزع في مقابل الصبر.. وليس التطبير وشج الرؤوس إلا من أهون معاني الجزع ومصاديقه.
ولعل من أجلى مصاديق الجزع على الحسين (عليه السلام) التي آلت إلى الموت والذي حظي بتقرير السجاد (عليه السلام) والعقيلة زينب (عليها السلام) هو موقف الرباب زوجة الحسين (عليه السلام).
فقد روى في الوافي عن الكافي (باب ما جاء في الحسين بن علي (عليهما السلام) الصفحة: 175) أنها بكت (رضوان الله عليها) على الحسين (عليه السلام) حتى جفت دموعها فأخبرتها بعض جواريها بأن السويق يسيل الدمعة فأمرت بذلك فصنع لها لاستدرار الدمع..
وواضح كم في البكاء حتى جفاف الدمع من الآلام والأوجاع.
وروي أنها ما استظلت من الشمس - حتى اقشعر جلدها وذاب لحمها وان الصديقة الصغرى (سلام الله عليها) كانت تسألها التحول من الشمس والجلوس مع النسوة في المأتم فكانت تأبى ذلك حتى لحقت بسيدها الحسين (عليه السلام).
وفي الكامل لابن الأثير الجزء الرابع (الصفحة 36):
(وبقيت بعده سنة لم يظلها سقف حتى بليت وماتت كمدا).