بسم الله الرحمن الرحيم
اکثر هذه الأسئلة التي اطرحتها لا تحتاج الي جواب لأن جوابها واضح للمحقق المنصف، و فيما تعتقدون توجد مسائل تحتاج إلي الجواب اکثر مما سئلت؛ و لا أريد أن أدخل فيها.
ألآن فقط بالنسبة إلي سؤال الاول أتکلم و أنتظر رأيک،
قلت: هل تؤمن أيها الشيعي بالقضاء والقدر؟
إن قلت نعم سأقول لك لماذ تضرب نفسك وتجلد ظهرك
وتصرخ وتبكي على الحسين؟
وإن قلت أنك لاتؤمن بالقضاء والقدر انتهى الأمر بإعتراضك على قضاء الله وعدم رضاك بحكمته.
أقول: کل من يحزن و يبکي لشيء لا يؤمن بالقضاء و القدر؟ الحزن و البکاء و الصرخة و .... عندکم يعني انکار القضاء و القدر؟
و ما تقول في افعال الأنبياء و الصالحين؟ النبي الذي قال يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ (يوسف : 84) کان يؤمن بالقضاء و القدر ام لا؟
أيها الأخ فکر و دقق، ثم تکلم؛ هذا السؤال یسأل عن التعارض بين البکاء و الصرخة و ضرب النفس و الإعتقاد بالقضاء و القدر؛ و بیان کتاب الله علی البکاء نبی علی ولده من شدة حزنه هو نفس الجواب عن هذا السؤال بأنه یتبين أنه لا التعارض بین البکاء و ... و الاعتقاد بالقضاء و القدر؛ و علی هذا ألیس قولک (ما علاقة يعقوب عليه السلام باللطم وضرب الظهر و ...) هو عدم فهم السؤال و هو الحيلة و الخروج عن البحث؟!
ثم اعلم أن علماء الشيعة أعلم منک بکتبهم و روايات أهل البيت عليهم السلام في مصادرهم؛ و الروايات اللتی ورد فیها فی الترغيب علی الحزن و العزاء علی ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله لا تعد و لا تحصی.
أنت تزعم أنک تعتقد بالقرآن الکريم و أنک من أهل السنة و الجماعة؛ فلا أقل أنظر إلي کتاب الله تعالي و سيرة نبيه صلي الله عليه و آله قبل أظهار رأيک، و الرد و التکفير علي سائر المسلمين.
إن الله تبارک و تعالي يقول في کتابه المحکم الحکيم: لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثيراً (الأحزاب : 21)
و عندنا فعل النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وقوله وتقريره:
أمّا الأوّل، فإنّه متواتر عنه في موارد عديدة:
منها: يوم أُحد، إذ علم الناس كافة بكائه يومئذ على عمّه أسد اللّه وأسد رسوله، حتى قال ابن عبدالبر في ترجمة حمزة من استيعابه:(1) لما رأى النبي (صلّى اللّه عليه وآله) حمزة قتيلا بكى، فلما رأى ما مثّل به شهق.
وذكر الواقدي ـ كما في أوائل الجزء الخامس عشر من شرح نهج البلاغة(2) للعلامة المعتزلي ـ إن النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) كان يومئذ إذا بكت صفيّة يبكي وإذا نشجت ينشج قال: «وجعلت فاطمة تبكي، فلمّا بكت بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله»(3)
ومنها: يوم نعى زيداً، وذا الجناحين، وابن رواحة، فيما أخرجه البخاري في الصفحة الثالثة من أبواب الجنائز من صحيحه(4)
وذكر ابن عبدالبرّ في ترجمة زيد من إستيعابه: «إنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بكى على جعفر وزيد» وقال: «أخواي ومؤنساي ومحدّثاي»(5)
ومنها: يوم مات ولده إبراهيم، إذ بكى عليه، فقال له عبدالرحمن بن عوف (كما في الصفحة 148، من الجزء الأوّل من صحيح البخاري): «وأنت يا رسول اللّه؟!».
قال: يابن عوف إنّها رحمة(6) ثم أتبعها (يعني عبرته) باخرى. فقال:
«إنّ العينَ تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول(7) إلاّ ما يُرضي ربّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» (
ومنها: يوم ماتت احدى بناته (صلّى اللّه عليه وآله) إذ جلس على قبرها (كما في صفحة 146 من الجزء الأول من صحيح البخاري) وعيناه تدمعان.
ومنها: يوم مات صبي لاحدى بناته إذ فاضت عيناه يومئذ (كما في الصحيحين(9) وغيرهما) فقال له سعد: «ما هذا يا رسول اللّه؟» قال:
«هذه رحمة جعلها اللّه في قلوب عباده، وإنّما يرحم اللّه من عباده الرحماء»(10)
ومنها: ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين، عن ابن عمر قال: «اشتكى سعد فعاده رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) مع جماعة من أصحابه فوجده في غشية فبكى (قال): «فلمّا رأى القوم بكاءه بكوا. الحديث»(11)
والأخبار في ذلك لا تُحصى ولا تستقصى.
وأمّا قوله وتقريره، فمستفيضان ومواردهما كثيرة:
فمنها: ما ذكره ابن عبدالبر في ترجمة جعفر من استيعابه قال: «لمّا جاء النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) نعي جعفر(12)، أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزّاها قال: ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول: «واعمّاه»، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:
«على مثل جعفر فلتبك(13) البواكي(14)»
ومنها: ما ذكره ابن جرير، وابن الأثير، وصاحب العقد الفريد وجميع أهل السير، وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل من حديث ابن عمر في صفحة 40 من الجزء الثاني من مسنده قال: «رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من أُحُد، فجعلت نساء الأنصار يبكين على مَن قُتل من أزواجهنّ، فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم):
«ولكن حمزة لا بواكي له».
(قال): ثم نام فاستنبه وهنّ يبكين».
(قال): «فهنّ اليوم إذا بكين يندبن بحمزة»(15)
وفي ترجمة حمزة من الاستيعاب(16) نقلا عن الواقدي قال: «لم تبكِ امرأة من الأنصار على ميّت بعد قول رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) «لكن حمزة لا بواكي له» إلى اليوم إلاّ بدأن بالبكاء على حمزة». وحسبك تلك السيرة في رجحان البكاء على من هو كحمزة وإنْ بعد العهد بموته.
ولا تنس ما في قوله صلّى اللّه عليه وآله: «لكن حمزة لا بواكي له» من البعث على البكاء والملامة لهنّ على تركه، وحسبك به وبقوله «على مثل جعفر فلتبك البواكي» دليلا على الإستحباب.
وأخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس في صفحة 335 من الجزء الأوّل من مسنده من جملة حديث ذكر فيه موت رقية بنت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) وبكاء النساء عليها قال: «فجعل عمر يضربهن بسوطه» فقال النبي صلّى اللّه عليه وآله: «دعهن يبكين».
ثم قال:
«مهما يكن من القلب والعين فمن اللّه والرحمة». وقعد على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي».
قال: «فجعل النبي (صلّى اللّه عليه وآله) يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها(17(
وأخرج أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة حديثاً جاء فيه أنّه: مرّ على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) جنازة معها بواكي فنهرهنّ عمر. فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:
«دعهنّ، فإنّ النفس مصابة والعين دامعة»(18)
إلى غير ذلك مما لا يسعنا استيفاؤه.
وقد بكى يعقوب إذ غيّب اللّه ولده (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظيمٌ)(19) حتى قيل: ـ كما في تفسير هذه الآية من الكشاف(20) ـ ما جفّت عيناه من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً، وما على وجه الأرض أكرم على اللّه منه.
وعن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) كما في تفسير هذه الآية من الكشاف أيضاً: أنّه سُئل جبرئيل (عليه السّلام) ما بلغ وجدُ يعقوب على يوسف قال:
«وجد سبعين ثكلى قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مأة شهيد(21)، وماساء ظنه باللّه قط»(22)
و أي عاقل يرغب عن مذهبنا في البكاء بعد ثبوته عن الأنبياء (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)(23)
وأمّا ما جاء في الصحيحين من أنّ (الميت يعذب لبكاء أهله عليه)، وفي رواية: (ببعض بكاء أهله عليه)، وفي رواية: (ببكاء الحي)، وفي رواية: (يعذّب في قبره بما نيح عليه)، وفي رواية: (من يبك عليه يعذب)(24)
فإنّه خطأ من الراوي، بحكم العقل والنقل.
قال الفاضل النووي: هذه الروايات كلّها من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبداللّه. قال: وأنكرت عائشة عليهما ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه واحتجّت بقوله تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)الخ...(25)
و أنكر هذه الروايات أيضاً عبداللّه بن عبّاس، واحتجّ على خطأ راويها، والتفصيل في الصحيحين وشروحهما، وما زالت عائشة وعمر في هذه المسألة على طرفي نقيض، حتّى أخرج الطبري(26) في حوادث سنة 13 من تاريخه بالإسناد إلى سعيد بن المسيب قال: «لما توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح، فأقبل عمر بن الخطاب حتى قام ببابها، فنهاهن عن البكاء على أبي بكر، فأبين أن ينتهين، فقال عمر لهشام بن الوليد: ادخل فأخرج إليّ ابنة أبي قحافة. فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: «إني أحرج عليك بيتي»، فقال عمر لهشام: «أدخل فقد أذنتُ لك»، فدخل هشام وأخرج أم فروة أخت أبي بكر إلى عمر، فعلاها بالدرة، فضربها ضربات، فتفرق النوّح حين سمعوا ذلك».
و كأنّه لم يعلم تقرير النبي نسآء الأنصار على البكاء على موتاهن، ولم يبلغه قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: (لكن حمزة لا بواكي له)، وقوله: (على مثل جعفر فلتبكِ البواكي) وقوله: (وإنما يرحم اللّه من عباده الرحمآء)
ولعلّه نسي نهي النبي صلّى اللّه عليه وآله إيّاه عن ضرب البواكي يوم ماتت رقيّة بنت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)، ونسي نهيه إيّاه عن انتهارهن في مقام آخر مرّ عليك آنفاً.
ثم إذا كان البكاء على الميت حراماً، فلماذا أباح لنساء بني مخزوم أن يبكين على خالد بن الوليد؟(27) حتى ذكر محمّد بن سلام ـ كما في ترجمة خالد من الاستيعاب(28) ـ : «إنّه لم تبقَ امرأة من بني المغيرة إلاّ وضعت لمّتها ـ أي حلقت رأسها ـ على قبر خالد» وهذا حرام بلا إرتياب واللّه أعلم.
(1) في أواخر الصفحة 378 من المجلد الثالث، طبع مصر.
(2) قد اشتمل هذا الحديث على فعل النبي صلّى اللّه عليه وآله وتقريره، فهو حجة من جهتين، على أنّ بكاء سيدة النساء ـ عليها السلام ـ كاف كما لا يخفى.
يقصد أنّ فعل فاطمة عليها السلام يكفي للاستدلال، وهو حجة في مثل هذا المقام، إذ أنّها معصومة عندنا، وقد أثبت علماؤنا ـ قدس اللّه سرهم ـ ذلك من الأحاديث الصحيحة والمتواترة، ويؤيده صريح آيتي المباهلة والتطهير.
ولا يخفى على الباحث ما في كتب التفسير، الحديث، التاريخ، السير، التراجم في هذا الشأن، مما يدل على عظمة البتول فاطمة بضعة رسول اللّه (صلّى اللّه عليهما) ولن يفوته ما في الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء المطبوع مع الفصول المهمة في تأليف الامة، وكلاهما لسيد شرف الدين من علمائنا.
(3) شرح نهج البلاغة; للمعتزلي 15 / 17، دار إحياء الكتب العربية.
(4) صحيح البخاري 4 / 218، ط بيروت، دار الفكر، سنة 1401.
(5) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2 / 546.
(6) لا يخفى ما في تسميتها رحمة من الدلالة على حسن البكاء في مثل المقام.
(7) أراد بهذا أنّ الملامة والإثم في المقام إنّما يكونان بالقول الذي يسخط الربّ (عزّ وعلا)، كالاعتراض عليه والسخط لقضائه لا بمجرّد دمع العين وحزن القلب.
( صحيح البخاري 2 / 85 ، ط دار الفكر، بيروت.
(9) أنظر: الصفحة 146 من الجزء الأول من صحيح البخاري وباب البكاء على الميت من صحيح مسلم. وفي الطبعات الحديثة، البخاري 8 / 165 و 7 / 224 و 2 / 80 دار الفكر، وصحيح مسلم 3 / 39، دار الفكر بيروت.
(10) دلالة قوله: (وإنما يرحم اللّه من عباده الرحماء) على استحباب البكاء في غاية الوضوح كما لا يخفى.
/ 40. ولا يخفى اشتماله على كلٍّ من فعل النبي (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) وتقريره فهو حجة من جهتين.
(12) هذا الحديث مشتمل على تقريره (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) على البكاء، وأمره به على أنّ مجرد صدوره من سيدة النساء (عليها السلام) حجة كما لا يخفى.
(13) هذا أمر منه (صلّى اللّه عليه وآله) بالبكاء ندباً على أمثال جعفر من رجال الأمّة وحسبك به حجة على الإستحباب.
(14) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 1 / 243.
(15) مسند أحمد 2 / 40، ط بيروت، دار صادر، والمعجم الكبير للطبراني 11 / 210، وكنز العمّال 13 / 335، ح 36945، أُسد الغابة 2 / 48، وتاريخ الطبري 2 / 210، دار الفكر.
(16) للفقيه الحافظ المحدث ـ ابن عبدالبر القرطبي المتوفى سنة 463.
(17) مسند أحمد بن حنبل 1 / 335، ط دار صادر.
(18) مسند أحمد 2 / 333.
(19) سورة يوسف: الآية 84 .
(20) الكشّاف 2 / 339.
(21) هذا كالصريح في استحباب البكاء إذ ليس المستحب إلاّ ما يترتب الثواب على فعله كما هو واضح.
(22) الكشّاف 2 / 339.
(23) سورة البقرة: الآية 130.
(24) صحيح البخاري 2 / 83 ، 5 / 9، صحيح مسلم 3 / 41 وسنن ابن ماجة 1 / 508.
(25) عند ذكر هذه الروايات في باب الميت يُعذّب ببكاء أهله عليه من شرح صحيح مسلم، 6 / 228، ط دار الكتاب العربي، سنة 1407، وأنظر: مقدمة (العقد الثمين) للشوكاني المتوفى 1250.
(26) تاريخ الطبري: ذكر وفاة أبي بكر، 2 / 614، ط بيروت الأعلمي.
(27) وبكى هو على النعمان بن مقرن واضعاً يده على رأسه، كما نص عليه ابن عبدالبر في ترجمة النعمان من إستيعابه 4 / 1506 وفي أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد قال: ولما نُعي النعمان بن مقرن إلى عمر بن الخطاب وضع يده على رأسه وصاح يا أسفاه على النعمان.. و بكاؤه على أخيه زيد معلوم بالتواتر.
(28) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2 / 431.